JavaScript is not enabled!...Please enable javascript in your browser

جافا سكريبت غير ممكن! ... الرجاء تفعيل الجافا سكريبت في متصفحك.

Home

الصراع بين عبدة ودكالة: البئر جزء من تاريخ من المواجهات

 




على امتداد الحوض الأطلسي المغربي، شكلت قبيلتا عبدة ودكالة أحد أبرز مظاهر التركيبة القبلية التي طبعت تاريخ المغرب لقرون، وبينما عُرفت دكالة بكونها أرضًا زراعية خصبة تتقن فن التعايش والانفتاح، كانت عبدة موطنًا لقبائل محاربة، شكلت لوقت طويل قوة عسكرية مهمة في البلاد، لكن العلاقة بين الجارتين لم تكن دائمًا وديّة، بل شهدت صراعات وحروبًا دامية كانت تغذيها عوامل سياسية، اقتصادية، وحتى صراعات النفوذ داخل تركيبة المغرب التقليدية.

جذور الصراع: بين الأرض والسلطة

يعود التوتر بين عبدة ودكالة إلى فترات بعيدة، حيث كانت منطقة الشاوية ودكالة تُعرف بثرواتها الزراعية، بينما كانت قبائل عبدة تعتمد أكثر على الفروسية والرعي، وهو ما خلق نوعًا من التضاد بين الطرفين، ورغم أن القبيلتين كانتا تتشاركان روابط تاريخية ووشائج اجتماعية، فإنهما دخلتا في مواجهات عنيفة بسبب التنافس حول الأراضي الخصبة والمراعي.

في القرن السابع عشر والثامن عشر، تفاقم الصراع مع صعود المخزن المركزي، حيث حاولت كل من القبيلتين إثبات ولائها للسلطان المغربي لضمان الامتيازات السياسية والاقتصادية، كانت دكالة تُعرف بولائها التقليدي للمخزن، بينما تميزت عبدة بنزعتها المتمردة أحيانًا، وهو ما جعل بعض السلاطين يستغلون هذا التوتر لتعزيز نفوذ الدولة وتقوية قبضتها على القبائل.

الصراع على البئر: الماء كمصدر للحروب القبلية

لم يكن النزاع بين عبدة ودكالة مجرد صراع حدودي أو سياسي، بل كان الماء عنصرًا محوريًا في كثير من الاشتباكات التي نشبت بين القبيلتين، ففي ظل طبيعة المغرب الجغرافية حيث تشكل الموارد المائية عنصرًا حاسمًا في الاستقرار، مثلت الآبار نقطة توتر رئيسية بين القبيلتين.

أحد أبرز الصراعات المعروفة في تاريخ المنطقة كان حول بئر العونات، الذي شكل مصدر حياة لعشرات العائلات من القبيلتين، كانت دكالة، التي عُرفت باهتمامها بالزراعة، ترى في التحكم في البئر ضمانًا لاستقرار زراعتها وسقي محاصيلها، بينما كانت قبائل عبدة، التي تعتمد على الرعي والفروسية، تحتاج الماء لمواشيها وتنقلاتها.

ووفقًا للروايات الشفهية، فإن إحدى أكثر المواجهات ضراوةً اندلعت عندما حاولت قبائل عبدة الاستيلاء على البئر بالقوة، مما دفع دكالة إلى الاستنجاد بالمخزن المغربي الذي أرسل قوات لفض النزاع، غير أن الأمر لم ينتهِ عند هذا الحد، إذ عادت عبدة لمحاولة السيطرة عليه في مناسبات متعددة، وهو ما جعل الصراع حوله يستمر لعقود.

لم يكن هذا النزاع الوحيد، فقد سجل التاريخ صراعات أخرى حول العيون المائية ومناطق السقي، ما جعل الصدام بين القبيلتين يأخذ أبعادًا معقدة، خاصة مع التدخلات السلطانية التي كانت تتذبذب بين دعم هذا الطرف أو ذاك، وفقًا للمصالح السياسية للعرش المغربي في كل فترة.

 

 

 

معركة "النجمة السوداء".. شرارة المواجهة الكبرى

من أبرز محطات هذا الصراع تلك المعركة الشهيرة التي أُطلق عليها "النجمة السوداء"، حيث دخلت قبائل عبدة في مواجهة شرسة مع دكالة إثر نزاع حول حقوق المراعي واستغلال الأراضي الزراعية، ويقال إن المعركة كانت من أكثر المواجهات دموية، حيث امتدت على عدة أيام وأسفرت عن خسائر كبيرة من الطرفين.

ورغم محاولات التهدئة، فإن تلك المواجهات ظلت تتكرر بأشكال مختلفة، إذ كانت كل قبيلة تحاول فرض سيطرتها على المجالات الحيوية، خاصة أن المغرب في تلك الفترة كان يعرف اضطرابات سياسية نتيجة ضعف المخزن، مما جعل بعض الزعامات المحلية تسعى لترسيخ سلطتها بالقوة.

توظيف الصراع في لعبة السلطة

خلال القرن التاسع عشر، ومع تعاظم نفوذ القواد المحليين، استغل بعض القادة هذا الصراع لخدمة أجنداتهم السياسية،  ومن بين أبرز الأسماء التي ارتبطت بهذه المرحلة القايد عيسى بن عمر، الذي حكم منطقة عبدة بقبضة من حديد، وكان له دور بارز في تعزيز العداء بين القبيلتين، مستفيدًا من انقساماتها لضمان ولاء المخزن له.

في المقابل، لم تكن دكالة بعيدة عن هذه اللعبة، إذ دعمت بعض العائلات النافذة في القبيلة المخزن المغربي، وسعت للحفاظ على استقرارها الاقتصادي في مواجهة الاضطرابات المستمرة في عبدة.

التصالح والانصهار في هوية مغربية موحدة

مع دخول المغرب الحقبة الاستعمارية، بدأ هذا الصراع يفقد زخمه تدريجيًا، حيث ظهرت تحديات أكبر فرضت نوعًا من التقارب بين القبيلتين، خاصة أمام الغزو الفرنسي والإسباني، وفي مرحلة ما بعد الاستقلال، شهدت المناطق التي كانت مسرحًا للنزاعات ديناميات اجتماعية جديدة، حيث أصبحت عبدة ودكالة اليوم جزءًا من نسيج وطني موحد، رغم استمرار بعض التنافسات الرمزية في المجال الرياضي والثقافي.

إرث الصراع: بين الأسطورة والواقع

اليوم، ورغم مرور عقود على الصراعات القديمة، لا تزال الذاكرة الشعبية في المغرب تحتفظ بالكثير من الحكايات والأساطير عن معارك عبدة ودكالة، حيث يتناقل الناس قصصًا عن بطولات الفرسان وصمود القبائل في وجه بعضها البعض.

لكن في النهاية، يبدو أن هذا الصراع لم يكن مجرد حرب قبلية عادية، بل كان انعكاسًا لتحولات سياسية واجتماعية ساهمت في تشكيل المغرب الحديث، فسواء من خلال الصراع أو التعايش، لعبت عبدة ودكالة دورًا حاسمًا في تاريخ المغرب القبلي والسياسي، تاركة إرثًا لا يزال حاضرا في الذاكرة الجماعية للمغاربة.

ما بين الماضي والحاضر، ظل الصراع بين عبدة ودكالة جزءًا من تاريخ المغرب، لكنه لم يكن سوى صورة مصغرة من الصراعات التي عاشتها القبائل المغربية عبر العصور، ورغم اختلاف الظروف اليوم، فإن هذا الإرث التاريخي يبقى شاهدًا على تعقيد التوازنات الاجتماعية في المغرب، حيث تتداخل القبيلة، الأرض، والسياسة في مشهد يصعب فصله عن تاريخ البلاد الطويل.


NameEmailMessage